تم نشر هذا المقال _مختصرا_ في مجلة القافلة وهذا هو الرابط
كانت الكلمة على الحجر، ثم انتقلت إلى الورق، واستمرت قروناً حتى أتت الطابعة وأصبحت الثورة في العلوم بسبب انتشار الكتب وارتفاعها عدداً وانخفاض سعرها مقارنة بالعهد الذي قبله. ثم جاء الراديو وساد شك بانقراض الكتاب. لكنهم كانو على خطأ. وكانوا على خطأ أيضاً لما أتى التلفاز والسينما والانترنت. حافظ الكتاب على عرشه كمصدر أول للمعلومة الموثوقة والأبحاث وحتى التسلية.
حتى جاء الكتاب الإلكتروني. في البداية ظننا أنه سيفشل وأن لا أحد سيقرأ كتاباً من الشاشة. لكن سهولة الوصول للكتاب بنقرة على بضعة أزرار وأنت مستلقٍ على سريرك في منتصف الليل أصبحت مغرية للكثيرين. خاصة مع زيادة عدد الكتب الالكترونية على الإنترنت والمكتبات المجانية العملاقة كـ http://www.worldreader.org و http://dp.la/ التي تقول لكل من يبحث عن الكتاب "هيت لك".
ارتفعت المبيعات للكتب الإلكترونية. وظهرت أجهزة مخصصة للقراءة الإلكترونية لأجل تخفيف الإجهاد على العين بسبب وهج الشاشات والقراءة الطويلة. مثل kindle و nook و kobo . أشهرها kindle الذي ظهر سنة 2007 من شركة أمازون القائمة على التجارة عبر الانترنت.والذي يحتوي في مكتبته الإلكترونية 2,908,475 كتاب حتى الآن وتزيد يومياً.
انتشرت أيضا تطبيقات لهذه المكتبات لكل الأجهزة المحمولة تيسر إكمال القراءة من أي جهاز وأي مكان. وتمكِّن الشخص من حمل مئات الكتب في جيبه. وهذه النقطة أيضاً كانت أمراً مشجعاً لشراء الكتب إلكترونيا للأشخاص كثيري التنقل أو من يعيشون في أماكن صغيرة.
زادت مبيعات الكتب الإلكترونية كثيراً حتى تخطت مبيعات الكتب المطبوعة لأول مرة عام ( 2011 ) بنسبة 61% لصالح الإلكترونية. بعد أربع سنوات فقط من ظهور القارئ الإلكتروني أول مرة. وبدأت الشكوك بانقراض الكتب الورقية بالظهور مرة أخرى.
سهولة الوصول ووجود الكتب في الأجهزة المحمولة بأنواعها وكثرة الكتب المجانية _ يوجد منها 101,505 في متجر كندل لوحده و مليون أخرى في مكتبة كوبو_ شجعت المزيد من القراءة خاصة للشباب الذي يستثقلون حمل كتاب ورقي ينسونه في السيارة أو الجامعة أو المنزل أو حتى المقهى. وفكرة حمل كتب الجامعة والمدرسة معك في جهاز لا يتعدى وزنه 700 جرام مغرية جداً أيضاً. فزاد انتشار الكتب الإلكترونية وقلَّ شراء الكتب الورقية.
وظهرت مشكلات جديدة في حفظ حقوق المؤلف ودار النشر. مما دفع دور النشر لمحاولة استقطاب الشباب بتطبيقاتها للكتب الإلكترونية.وهذا شجع المزيد من المبيعات الإلكترونية.حتى أن بعض المجلات والصحف انتقلت بالكامل للصيغة الإلكترونية مثل PC world أو على الأقل وضعت نسخة الكترونية مطورة بالفيديو والصور مثل نيويورك تايمز لجذب هذه الشريحة المهتمة بالقراءة من الشاشة. وأصبحت المقالات والأخبار تُكتب بنية انتشارها بأكبر قدر ممكن من قَبل القرّاء. وتغيرت طبيعة عمل المحررين في الصحف. فقد كانو يراجعون الأخبار كل صباح ويعتمدونها لكن الآن مع النشر المباشر للأخبار في حينها أصبح عملهم على مدار الساعة.
تغيرت صناعة النشر والتأليف بالكامل. أصبح الكاتب يستطيع نشر كتابه وبيعه مباشرة بلا تكاليف كبيرة. مما جعل عملية النشرحرة أكثر وساعدت لانتشار كتب رائعة ما كانت لتظهر بسبب تردد دور النشر كرواية "المريخي " التي كانت في بدايتها منشورة كلياً على الانترنت من قِبل كاتبها مباشرة. ونعود لذكر أمازون التي بدأت حركة جديدة بإلغاء دور النشر الوسيطة بين البائعين _مثل أمازون_ والكُتّاب. ووضعت نظاماً بسيطاً يمكّن الكاتب من بيع كتابه مباشرة عبر متجر كندل الإلكتروني. والمفاجأة أن 20% مما يصرفه القرّاء في متجر كندل يذهب إلى هؤلاء الكتّاب المستقلون.
وغيّرت كذلك من استراتيجيات المكتبات التي صُدِمت بانخفاض مبيعات كتبها الورقية. فمكتبة كبيرة مثل Waterstones في بريطانيا أعادت تهيئة مكتباتها وأعطت حرية أكبر للمسؤولين في الفروع لاختيار العناوين المناسبة للمجتمع حولها. وبعضها أصبحت تعتمد على جعل المكتبة مكاناً لإطلاق الكتب ولقاء الكتّاب والمناسبات الثقافية.
ويظن بعض الباحثين أن وجود الكتاب الإلكتروني أتى بثورة ضد احتكار العلم لمن يملك المال. والمبادرات للمكتبات المجانية العملاقة كالتي سبق ذكرها ساعدت بنشر الكتاب والعلم لكل من يحتاجه بأقل التكاليف.
نشأت نقاشات عديدة بين محبي القراءة عن الفروقات بين القراءة من الشاشة والقراءة من الكتاب الورقي. ومهما تغزل محبي الكتب الورقية برائحة الورق وإحساسه وجمال منظرها وهي مصفوفة على رفوف المكتبة وقلة التنبيهات التي تقاطع القراءة والقدرة على الإستعارة والإهداء بين الأصدقاء. وإحساس الإنجاز حين يرون الكم المادي للصفحات التي قرؤوها. إلا أن المبيعات ظلت تخذلهم لفترة من الزمن وتؤكد لهم أن الكتاب الإلكتروني ينتشر.
بعض القرّاء الذين يستخدمون القارئ الإلكتروني واجهوا تحيزاً ضد أجهزتهم ولم يُسمح لهم باستخدامه في بعض المحلات كما حصل لـ Nick Bilton والذي نشر ما حصل معه في مدونته على نيويورك تايمز _سنة 2010 _.
وفي الجهة المقابلة يتحيّز محبي الكتاب الإلكتروني ضد القرّاء الورقيين بأن هدفهم الأول من حمل الكتاب الورقي هو التبجح بمنظر الكتاب بين يديهم.وأن الكثير من الكتب المطبوعة لا تستحق قطع الأشجار من أجلها.
رغم أن الأسباب البيئية التي يروّج لها محبي الكتب الإلكترونية تبدو مقنعة إلا أنهم لا يفكرون كثيراً بالمعادن والطاقة والتلوث الذي يحصل لصنع الجهاز الذي يقرؤون منه كتابهم ويتناسون أن الأشجار مصدر متجدد ويمكن إعادة زرعها مرة أخرى، عكس الطاقة الأحفورية التي يستهلكونها.
فما الفرق بين القراءة من الشاشة والقراءة من الورقة ؟
سأل بعض الدارسين نفس السؤال وقرروا عمل بحث عن هذا الموضوع . ووصلوا لنتيجة مهمة وهي أنه يوجد فرق حقيقي بين القراءة الإلكترونية والورقية. وبدؤا تصنيف الإستخدام الأمثل لكل منهما.
وخلصوا إلى أن الكتب الورقية أفضل للقراءة الدراسية والكتب التي تريد تذكر معلوماتها بشكل أفضل لأسباب منها ، ربط المعلومة في الذاكرة بمكانها في الكتاب ولقلة التنبيهات التي تشتت التركيز.
أما الكتب الروائية أو المعلومات الخفيفة فالقراءة من كتاب إلكتروني جيدة لأن القارئ سيستطيع حملها معه وقراءتها بشكل عابر في أوقات الفراغ وأثناء السفر دون حمل وزن إضافي كبير. إلى جانب وجود الإضاءة في أغلب شاشات الأجهزة التي تيسر القراءة في السرير في الظلام.
المشكلة الحقيقية في الكتب الإلكترونية التي تواجه محبي العلوم والقراءة ليست في سهولة الحمل والتنقل والإضاءة. لكن في استرجاع المعلومات بعد عقود من القراءة.
فإن استغنى الناس عن الكتب الورقية. فلن تستمر دور النشر بطباعتها. وإن توقفت الكتب الورقية واعتمدنا على الإلكترونية، فما الذي يضمن لنا إستطاعتنا نقل كل الكتب إلى التقنيات الجديدة ؟
الكتب الورقية قبل يوم أو قبل مائة عام لا تحتاج لتقنية من أجل قراءتها. معرفتك باللغة كافٍ. لكن الإلكترونية تحكمها التقنية وهي متطورة ومتجددة. وهذا التطور والتجدد يعني تغير الوسيط الذي يحمل لنا الكتب. ولا نضمن أن تستمر التقنية في حمل التقنيات القديمة معها.
إن كنت من الجيل الذي استخدم floppy desk ولديك ملف مهم تود استرجاعه من وسيط التخزين هذا. فسوف تجد أن هذا الأمر صعبٌ جداً وستبحث كثيراً قبل أن تجد جهازاً يستطيع قراءته. فهل سيحصل هذا مع الكتب الإلكترونية بعد تطور التقنية ؟ ويصبح استخراج المعلومات منها شبيه بقراءة البُرد الهيروغليفية ؟
ارتفاع مبيعات الكتاب الورقي مرة أخرى هذا العام والعام الماضي بنسب طفيفة وتوقّع بعض المختصين أن هذا الإرتفاع سيستمر في المستقبل القريب.يؤكد لنا أنه لازال للكتاب المطبوع على الورق قيمة واهتمام بين القرّاء. بسبب انتشار الدراسات سابقة الذكر إلى جانب حب جمع الكتب الموقعة من الكُتّاب ورومانسية ملمس الورق ولا يمكننا إغفال جمال المباهاة بمجموع الكتب التي ترتاح على رفوف المكتبة الخاصة بك والإنطباع الذي تتركه لدى من يراها.
وتكرر أن نسمع من محبي القراءة أنهم يقرؤون الكتاب إلكترونيا إن كان يصعب عليهم توفيره ورقيا أو إذا كانوا يريدون الحصول عليه بسرعة لكنه إن أعجبهم اشتروا نسخة ورقية منه يحتفظون بها في المكتبة لأجل العودة له بعد سنوات أو بهدف توريثه لأبنائه.
فهل هم على حق ؟ هل ستظل الكتب الورقية وتصمد أمام التحول الإلكتروني لكل شيء ؟ أم ستصبح أقرب إلى الفنون المندثرة والتحف الجميلة ؟
الكتاب الإلكتروني لن يبدو مهماً حقاً لشخص من دولة غنية تبعد عنه المكتبة كيلومترات قليلة ولا يأخذ شراء الكتاب منه الكثير من الجهد ولا نسبة كبيرة من دخله. وسيفضّل الكتاب الإلكتروني لأسباب رفاهية. بينما يعتبره الفقير وسكان القرى النائية مصدراً رئيسياً للمعرفة. فحين يقرر أحدهم شراء كتاب، يجب عليه قطع كيلومترات طويلة لينتقل إلى أقرب مكتبة في أقرب مدينة. ليغامر بجزء كبير من دخله في المواصلات والجهد على احتمال أن يجد الكتاب الذي يريده فيها.
فلما توفّر الجمعيات الخيرية أجهزة مختلفة من كمبيوترات محمولة أو تابلت أو جوالات ونقطة مجانية للاتصال بالانترنت. فإنها توفر على هذا الشخص الكثير من المال والجهد ليحصل بشكل شبه أكيد على الكتاب الذي يريده من هذه المكتبات اللامتناهية والتي تحمل معها الكثير من العلوم المجانية.
في رأيي ، لن ينقرض أيهاً منهما. فلكلٍ من الكتاب الورقي والإلكتروني استخدامات مهمة لا يمكن إغفالها. ومتعة جميلة لا يمكن تجاهلها.
وسيظل الأمل داخلي أن يتوقف محبي القراءة عن التحيز للوسيط الذي يحبونه ويحمل لهم الكتب. ويبدؤوا الإنغماس في متعة قراءة نص الكتاب أياً كان الوسيط.